قال الشاب وهو يبتسم مزهوا:
– إن العالم أجمع يقول إن كيان دولة لبنان قائم على الطائفية.. وهذا صحيح، ويقولون أن لبنان يعتبر مستنقعا سياسيا کل من يقترب منه يغوص فيه. وكل من يخطو عليه خطوة لا يدري أين يضع الخطوة التالية. وهذا صحيح أيضا. ورغم ذلك كله فإن شعب لبنان هو الشعب العربي الوحيد الذي اعتدت عليه إسرائيل واستطاع أن يفرض عليها الإنسحاب دون أن تفرض عليه أي وضع أو أي شروط.. انسحبت مهزومة، حتى لو قيل إن دولة إسرائيل لا تزال قادرة على أن تسيطر على لبنان فهي على الأقل هزمت في معركة كانت قد وضعت لها تخطيطا سياسيا وعسكريا واضطرت إلى أن تلجأ إلى تخطيطات أخرى تفرض عليها الانسحاب العسكري.. بل إن الشعب اللبناني استطاع أيضا أن يفرض الانسحاب على الولايات المتحدة الأمريكية نفسها بعد أن كانت قد خططت للسيطرة عليه. باحتلاله عسكريا.. أي إن لبنان حقق ما لم تستطع مصر أن تحققه، فقد طردت القوات الأجنبية من أرضها دون أن يوقع اتفاقية مكتوبة كاتفاقية كامب ديفيد.. تفرض عليه وضعا معينا واتجاها سياسياً مرسوماً.. وهذا ما يجعلني أتساءل حائرا.. فلعل المجتمع الطائفي الذي يقيم دولة فوق مستنقع سياسي أقدر على حماية نفسه من مجتمع موحد يقيم دولة على أرض ثابتة يحكمها خط سياسي واحد.
وقال الشايب مقاطعا في حدة:
– لا.. لا.. هذه أوهام الجهلة.. فالمجتمع الطائفي يعيش كغيره وكل طائفة تدافع عن نفسها ضد الطائفة الأخرى.. أو تحاول السيطرة على الأخرى، وقد يقوم المجتمع على أغلبية كاسحة لطائفة واحدة تضطر بقية الطوائف إلى الاستسلام لها.. فتقوم دولة قوية ثابتة، دولة تمثل الشعب كله وبكل طوائفه، وقد يحدث- كما حدث في الحالات التاريخية النادرة- أن تستطيع طائفة لا تمثل أغلبية شعبية كاسحة ولكنها تمثل المستوى الأرقى فكريا واقتصاديا بين بقية الطوائف تستطيع هذه الطائفة أن تقيم الدولة بحيث تسيطر على الحكم وزمام الأمر، ولكن هذه الدولة تعيش دائما المعارك الطائفية وتبقى دائما مهددة بالإنهيار في كل شئ، وليس لبنان هو الدولة الوحيدة التي تعيش هذه الحالة. ولكنه الدولة الأكثر تعرضا للانهيار الطائفي. ذلك لأن المجتمع اللبناني يقوم على شبه توازن بين القوى الطائفية، وقد استطاعت هذه القوى أن تتحد للتخلص من الاستعمار الفرنسي وتبدأ في إقامة أول دولة لبنانية مستقلة.. ولكن هذه الدولة منذ وجدت وهي تعيش المعارك الطائفية نتيجة توازن القوى، وعدم الاستسلام لطائفة أقوى. وشملت المعارك الحياة المدنية كلها فالطائفة الفقيرة تسعى بجهد أفرادها إلى أن تكون في مستوى الطائفة الثرية.. والطائفة الضعيفة والأقل عددا تسعى إلى زيادة نسلها حتى تكون أكثر عددا ورغم أن الدوافع دائما هي دوافع طائفية إلا أنها رفعت لبنان إلى مستوى أهم وأرقى في المنطقة العربية فرغم أنه من أصغر الدول العربية إلا أنه أصبح من أغناها.. وأوسعها في التعامل اقتصاديا مع العالم كله، وأصبح هناك تقييم شائع باعتبار كل لبناني أنه إنسان شاطر ومجتهد وذكي وجريء مهما كانت الطائفة التي ينتمي إليها يكفي أنه لبناني يستطيع أن بعيش معارك مستمرة وطبعا كانت المعارك السياسية حول سلطة الحكم- أي سلطة الدولة- مستمرة وأقرب إلى المعارك القتالية. واستشهد في هذه المعارك الزعيم المسلم الذي كان أول من حقق الوحدة اللبنانية وهو رياض الصلح ثم أصبحت المعارك تشتد كلما ارتفع التوازن بين الطوائف بارتفاع دخلها وارتفاع تعدادها. حتى أصبح من المستحيل استسلام إحداها إلى الأخرى أي من المستحيل أن يكون لبنان دولة ثابتة مستقرة.
وصاح الشاب مقاطعا:
– سواء كان لبنان دولة مستقرة أو غير مستقرة فهو دولة لها قوة استطاعت أن تطرد بها الاحتلالين الأميركي واليهودي…
وقال الشايب وهو يزفر أنفاسه في حسرة:
– إن القوة في لبنان لا يملكها لبنان إنها كلها قوى في أيد أجنبية. وقد قام نظام دولة لبنان كدولة مستقلة اعتمادا عل قوة فرنسا.. ووجدت الطوائف التي لم تقتنع بهذا النظام أنها في حاجة إلى الاعتماد على قوى أجنبية أخرى، سواء كانت قوى عربية أخرى أو دول أجنبية.. وبذلك أصبحت كل طائفة تعتمد على قوى ليست لبنانية بجانب قوتها الطائفية.. ومع تطور الأحداث العالمية تطورت القوى داخل لبنان. ولكن كلها قوى أجنبية. لذلك فكل المعارك الانتحارية والفدائية الهائلة والرائعة التي قامت في مواجهة الاحتلال الأميركي واليهودي لا تنسب إلى لبنان.. لا تنسب إلى الدولة رسميا، فهي دولة لم تعلن الحرب لا على أميركا ولا على إسرائيل، ولكن كل معركة تنسب إلى الطائفة التي قامت بها، لأن كل طائفة تنفرد بقوة أجنبية تعتمد عليها، لذلك أصبح الرأي العام تلقائيا يعتبرها معركة بين أميركا والاتحاد السوفيتي أو بين إسرائيل وسوريا، وكل دولة أجنبية ممثلة في طائفة لبنانية وليست بينها دولة لبنان. حتى لو كانت الطائفة الحاكمة معتمدة على إحدى هذه القوى الأجنبية، أي.. باختصار، فإن لبنان ليس دولة حتى تقارن بينها وبين بقية الدول.
وصاح الشاب:
– إنها معارك لبنانية ما دامت تقع على أرض لبنان.
وقال الشايب في هدوء:
– إنها لن تكون معارك لبنانية إلا إذا كانت تعبر عن وحدة الشعب اللبناني. وافرض أن معركة وقعت على أرض سويسرا فلا شك أنها تعتبر معركة سويسرية. فرغم انقسام شعب سويسرا إلى ثلاث طوائف. أي إلى طائفة فرنسية وطائفة إيطالية وطائفة ألمانية. ورغم الاختلاف الكبير بين هذه الطوائف حتى إن كل طائفة تنفرد باللغة التي تتعامل بها، إلا أنها وصلت إلى تتظيم يضع الوطنية فوق الطائفية وأصبح كل أفراد الشعب ينتسبون إلى الدولة. وهذا ما لم يتحقق بعد في لبنان، فكل فرد ينتسب إلى الطائفة التي يتبعها لا إلى دولته. وتسيطر الطائفية على الوطنية.. وليس معنى ذلك أني أطالب بتطبيق نظام الدولة السويسري على لبنان، فإن الوضع الطائفي مختلف اختلافا كبيرا بين كلا البلدين. ولكن يستطيع لبنان أن يحقق نظام الوحدة الطائفية كما وصلت سويسرا إلى نظام وحدتها.
وقال الشاب وهو ينظر إلى بعيد كأنه يتعلق بالأمل:
– إن الأحداث تفرض الوحدة على الطوائف اللبنانية تلقائيا. حتى قيل إنه بعدما بدأت إسرائيل في الانسحاب من الجنوب انشق عنها أكثر من ثلث أفراد القوات اللبنانية التي كانت إسرائيل قد جمعتها لتعتمد عليها في حراسة الحدود.. انشقوا عنها وهربوا إلى الجيش اللبناني الذي يمثل الدولة وهو ما يبشر باستكمال وحدة الهدف والموقف الطائفي. أي وحدة الدولة على أساس وحدة الشعب اللبناني.
وقال الشايب وهو يعود ويزفر أنفاس اليأس:
– أخشى أن تكون كل التحركات الطائفية في لبنان تخضع لما تفرضه المراحل الواقعية، لا لما تفرضة المبادئ، وقد مر الواقع الطائفي منذ قيام دولة لبنان بعدة مراحل متناقضة بين منتهى الهدوء ومنتهی العنف لأن العنصر الطائفي نفسه لا يتطور حتى يستطيع إقامة دولة مستقرة دائمة. ومنذ العام الماضي قامت عدة محاولات لتحقيق الوحدة الطائفية، ولكنها إلى الآن لم تصل إلى وضع نظام مكتوب يحقق ويضمن هذه الوحدة.. وقادة الطوائف يتبادلون اللقاءات والقبلات بينما القتال مستمر بين أفراد طائفة كل منهم، بل إن وزارة الدولة اللبنانية أصبحت تسمى وزارة الوحدة.. ولكنها وحدة لا تزيد عن الجلوس حول مائدة واحدة داخل مجلس الوزراء.
وصاح الشاب كأنه يستغيث:
– إذن ما هو الطريق لإقامة دولة لبنانية قوية بتحقيق وحدة القوى الطائفية؟
وقال الشايب كأنه يتردد في الإفصاح عن رأيه:
– قلت لك إن قوة لبنان وجدت منذ قيام الدولة اللبنانية اعتمادا على قوى أجنبية، سواء قوى عربية أو عالمية. أي إن لبنان يعيش دائما بدولة تفرضها قوة خارجة عنه وتضمن استقراره وأنا أعتقد أن القوة الأكبر الآن التي تستطيع أن تفرض نظام الحكم في لبنان بموافقة الشعب اللبناني هي قوة سوريا ولو استطاعت سوريا بنفوذها ومساعيها واتصالاتها السياسية أن تحقق الوحدة الطائفية التي تقوم عليها دولة لبنان فقد حققت كل الاستقرار.. لا استقرار لبنان وحده بل استقرار کل العالم العربي.
وقال الشاب نافرا:
كأنك تريد أن تعود بنا إلى الحديث الذي لا ينتهي حول الوضع العالمي بين أميركا والاتحاد السوفيتيي.